Tuesday, July 31, 2012

سحر الحقيقة : الفصل الثاني- المقطع الثاني


ترجمة
"سحر الحقيقة, كيف نميز ما هو حقيقي بالفعل"
تأليف "ريتشارد دوكنز"

الرسومات التوضيحية  "ديف ماكين"
الفصل الثاني - المقطع الثاني
من كان أول البشر "فعلاً" ؟


ربما فاجأك هذا, لكن لم يكن هناك أبداً أول إنسان. لأن كل شخص حتماً له والدين, و هذان الوالدان لابد أن يكونا بشراً أيضاً. المثل مع الأرانب. لم يكن هناك أبداً أول أرنب, ولا أول تمساح, ولا حتى أول يعسوب. كل كائن وُلِد يوماً كان من نفس نوع والديه ( ربما كان هناك بعد الاستثناءات القليلة التي سأتجاهلها هنا). و بالتالي كل كائن وُلِد يوماً كان من نفس نوع أجداده. و أجداد أجداده. و أجداد أجداد أجداده. و هلُمَ جرا حتى الأبد.
حتى الأبد؟ حسناً. لا, ليس الأمر بهذه البساطة. هذا سيتطلب بعض الشرح, و سأبدأ بتجربة ذهنية. التجربة الذهنية هي تجربة تجري في مخيلتك. ما سنقوم بتخيله هو حرفياً غير ممكن لأنه سيأخذنا نحو حقب زمنية موغلة في القدم, قبل أن نولد بكثير.لكن استحضارها في مخيلاتنا سيعلّمنا شيئاً هاماً. لذا, إليك تجربتنا الذهنية. كل ما عليك فعله هو أن تتخيل نفسك متًّبعاً تلك الإرشادات.
=اجلب صورتك الشخصية. ثم خذ صورة لوالدك و ضعها فوقها. ثم صورة لوالد والدك, جدك. ثم ضع فوق ذلك صورة لوالد جدك, جدك الأكبر. ربما لم يحدث أبداً أن قابلت أياً من آباء أجدادك. أنا لم أحظَ بتلك الفرصة أيضاً, لكني أعرف أن أحدهم كان مديراً لمدرسة قروية, و أحدهم طبيباً قروياً, و الآخر مراقباً للغابات في الهند البريطانية, و رابعهم كان محامياً مات بينما كان يتسلق الصخور في سن متقدمة. حتى لو لم تكن تعرف كيف كان يبدو والد جدك, مازال بإمكانك أن تتخيله في صورة ضبابية, ربما كصورة بنية باهتة في حافظة جلدية. الآن افعل المثل مع والده, جد جدك. استمر في تكديس الصور بعضها فوق بعض, متوغلاً في القِدَم نحو المزيد و المزيد من أجداد الأجداد. يمكنك فعل هذا حتى لو تعديت زمن اختراع التصوير: هذه تجربة ذهنية على أي حال.
كم من الأسلاف سنحتاج في تجربتنا الذهنية؟ حسناً, مجرد 185 مليون سَيَفونَ بالغرض!
ليس من السهل تخيل كومة من 185 مليون صورة. كم سيبلغ ارتفاعها؟ حسناً, لو أن كل صورة تمت طباعتها كصورة بطاقة بريدية عادية, فإن 185 مليوناً منها ستُشَكِّل برجاً بارتفاع 16,000 قدم. هذا يمثل أكثر من 40 من ناطحات سحاب نيويورك موضوعة بعضها فوق بعض. طويلة لدرجة أنه يصعب صعودها, ناهيك عن امكانية سقوطها (و هو ما سيحدث). لذا دعنا نميلها بحرص على جانبها, و نضع الصور بطول رف كتب وحيد.
كم سيبلغ طول هذا الرف؟ حوالي ثلاثة أميال.
الطرف الأقرب لرف الكتب هو صورتك, و الطرف الأبعد هو صورة لسَلَفك ال185 مليون. كيف كان يبدو؟ رجل مسن ذو شعر أشعث و لحية بيضاء؟ رجل كهف متدثر بجلد نمر؟ انس هكذا أفكار. نحن لا نعلم كيف كان يبدو بالتحديد, لكن الأحفورات منحتنا تصوراً جيداً. سَلَفَك ال185 مليون بدا هكذا -----------------------------------------------------
<


نعم, هذا صحيح, جدك ال185 مليون كان سمكة. و بالمثل كانت جدتك ال 185 مليون. و هذا منطقي و إلا لما أمكنهم التناسل و لما كنت هنا الآن.
لنمشي الآن بطول رف الصور الذي يبلغ طوله ثلاثة أميال, نستخرج الصور واحدةً تلو الأخرى و ننظر إليها. كل صورة تظهر مخلوقاً ينتمي لنفس النوع في الصورتين السابقة و التالية لها. كل واحدة تبدو تماماً كَجارَتَيّها في الصف – أو على الأقل بنفس مقدار الشبه بين أب و ابنه. على الرغم من ذلك لو مشيت مباشرةً من أحد طرفي الرف إلى الطرف الآخر, ستجد بشرياً عند أحدهم و سمكة عند الآخر. و كثير من الأسلاف الآخرين المثيرين للإهتمام فيما بينهما, و هم كما سنرى قريباً يتضمنون بعض الحيوانات التي تبدو كالقرود, آخرين يبدون كالسعدان, و البعض الآخر يبدو كالزبابة – حيوان قارض -, و هكذا. كل منهم يبدو كجارَيه في الصف, لكن لو حدث أن التقطت صورتين من مكانين متباعدين في الصف ستبدوان مختلفَتَيّن جداً, و إذا تتبعت الصف بدءاً من البشر متوغلاً في الزمن بشكلٍ كافٍ, ستنتهي إلى سمكة. كيف لهذا أن يحدث؟
في الحقيقة, ليس استيعاب الأمر بهذه الصعوبة. فنحن معتادون إلى حد كبير على قدرة التغييرات التدريجية خطوة صغيرة بخطوة, واحدة تلو الأخرى على إحداث تغيير كبير. كنت رضيعاً في وقت ما و لم تعد كذلك الآن. و عندما يتقدم بك العمر كثيراً سيتغير مظهرك مجدداً. على الرغم من ذلك, عندما تصحو من نومك كل يوم فأنت الشخص ذاته الذي كنته الليلة الفائتة. الرضيع يكبر ليتعلم المشي, ثم يكون طفلاً, ثم مراهقاً, ثم شابأ صغيراً, ثم شاباُ يافعاً, ثم كهلاً بعد ذلك. و التغيير يتم بشكل تدريجي. ليس باستطاعتك يوماً أن تقول " هذا الشخص توقف فجأةً عن كونه رضيعاً و أصبح طفلاً". لم يحدث أن قلت ذات يوم: "بالأمس كان ذلك الرجل يافعاً, و الآن صار مسناً".
هذا يساعدنا على فهم تجربتنا الذهنية التي تأخذنا إلى الخلف 185 مليونأ من الأجيال عبر أسلاف الأسلاف وصولاً إلى سمكة. و قد نعكس الإتجاه متقدمين في الزمن, و هو ما حدث عندما قام سلفك سَمَكيّ الصفات بإنجاب طفل سَمَكيّ الصفات, الذي أنجب بدوره طفلاً سَمَكيّ الصفات, والذي أنجب بدوره طفلاً...و هكذا, 185 مليون (بالتدريج أقل سَمَكيّة) جيلاً. انتهت إليك.
إذا فقد كان الأمر تدريجياً جداً – تدريجي لدرجة أنك لن تلحظ فارقاً إذا عدت ألف سنةٍ إلى الوراء. و حتى عشرة آلاف سنة, و هو ما يعني أنك عدت 400 جيل من أسلافك. أو بالأحرى, سوف تلاحظ العديد من التغييرات الطفيفة على طول الطريق, لأنه لا أحد يبدو كوالده تماماً. لكنك لن تلحظ توجهاً عاماً. عشرة آلاف عام من الزمن سابقة للبشر الحاليين ليست كافية لتظهر توجهاً. صورة سلفك الذي ينتمي لعشرة آلاف سنة فائتة لن تختلف عن البشر الحاليين, بالطبع لو استثنينا الاختلافات الظاهرية في شكل الملابس و الشعر و اللحية. لن يختلف عنّا إلا بمقدار ما يختلف بعض البشر الحاليين عن البعض الآخر.
ماذا عن مائة ألف سنة, حيث ستقف إزاء سلفك الذي سبقك ب 4000 جيل؟ حسناً, الآن قد يكون هناك تغييراً ملحوظاً. ربما ازدياد طفيف في سماكة الجمجمة, خاصة تحت الحواجب. لكنه سيظل فقط طفيفاً. لنعُد الآن أكثر في الزمن. لو أنك تجاوزت المليون سنة الأولى في الرف, فإن صورة سلفك الذي سبقك ب 50000 جيل ستكون مختلفة بالقدر الذي يمكننا من تصنيفها كنوع مختلف. النوع الذي نسميه “Homo Erectus”. البشر اليوم كما تعلم معروفون بال “Homo Sapiens”. “Homo Erectus”و“Homo Sapiens” لن يتمكنوا في الغالب من التناسل معاً. و حتى لو أمكن ذلك, لن يتمكن طفلهما من الإنجاب – بنفس الشكل التي لا يتمكن به البغل تقريباً في كل الأحوال من التكاثر(سنرى التبرير في الفصل القادم), و البغل الذي هو نتيجة تزاوج حمار و فرسة.


مرةً أخرى, كل شيء تدريجيّ. أنت “Homo Sapiens”و سلفك الذي يسبقك ب 5000 جيل كان “Homo Erectus”. لكن لم يحدث أبداً أن قام أحد ال “Homo Erectus”فجأة بإنجاب طفل من ال“Homo Sapiens”.
لذا فإن سؤال "من كان أول البشر و متى عاش؟" ليس له إجابة محددة. إنها إجابة غامضة نوعاً ما, مثل إجابة سؤال " متى توقفت عن كونك رضيعاً و أصبحت طفلاً؟". في نقطةٍ ما, ربما منذ أقل من مليون سنة لكن أكثر من مائة ألف سنة, كان أسلافنا مختلفين عنّا لدرجة أن شخصاً معاصراً لن يكون بإمكانه أن يتناسل معهم لو حدث أن التقوا.
ما إذا كان بمقدرتنا أن ندعو ال“Homo Erectus” بشراً هو سؤال مختلف. إنه سؤال يتمحور حول كيفية استعمالك للمفردات – سؤال عن دلالات الألفاظ. ربما يحلو لبعض الناس الناس تسمية الحمار الوحشي بالحصان المخطط, لكن البعض الآخر قد يفضل أن يحتفظ بالإسم "حصان" خاصاً بالنوع الذي نمتطيه. هو مجرد سؤال آخر عن دلالات الألفاظ. قد تفضل الإحتفاظ بكلمات "شخص", "رجل" و "امرأة" لتطلقها على ال“Homo Sapiens”. هذا يعود لك. لكن لا أحد سيرغب بإطلاق لفظة "رجل" على سلفك السمكي الذي سبقك ب 185 مليون جيل. سيكون ذلك سخيفاً, حتى لو كان هناك سلسلة متصلة تصلكما و كانت كل حلقة من تلك السلسة هي من نفس النوع الذي تنتمي إليه جارتيها السابقة و اللاحقة.

No comments:

Post a Comment