Tuesday, July 31, 2012

سحر الحقيقة : الفصل الثاني- المقطع الثاني


ترجمة
"سحر الحقيقة, كيف نميز ما هو حقيقي بالفعل"
تأليف "ريتشارد دوكنز"

الرسومات التوضيحية  "ديف ماكين"
الفصل الثاني - المقطع الثاني
من كان أول البشر "فعلاً" ؟


ربما فاجأك هذا, لكن لم يكن هناك أبداً أول إنسان. لأن كل شخص حتماً له والدين, و هذان الوالدان لابد أن يكونا بشراً أيضاً. المثل مع الأرانب. لم يكن هناك أبداً أول أرنب, ولا أول تمساح, ولا حتى أول يعسوب. كل كائن وُلِد يوماً كان من نفس نوع والديه ( ربما كان هناك بعد الاستثناءات القليلة التي سأتجاهلها هنا). و بالتالي كل كائن وُلِد يوماً كان من نفس نوع أجداده. و أجداد أجداده. و أجداد أجداد أجداده. و هلُمَ جرا حتى الأبد.
حتى الأبد؟ حسناً. لا, ليس الأمر بهذه البساطة. هذا سيتطلب بعض الشرح, و سأبدأ بتجربة ذهنية. التجربة الذهنية هي تجربة تجري في مخيلتك. ما سنقوم بتخيله هو حرفياً غير ممكن لأنه سيأخذنا نحو حقب زمنية موغلة في القدم, قبل أن نولد بكثير.لكن استحضارها في مخيلاتنا سيعلّمنا شيئاً هاماً. لذا, إليك تجربتنا الذهنية. كل ما عليك فعله هو أن تتخيل نفسك متًّبعاً تلك الإرشادات.
=اجلب صورتك الشخصية. ثم خذ صورة لوالدك و ضعها فوقها. ثم صورة لوالد والدك, جدك. ثم ضع فوق ذلك صورة لوالد جدك, جدك الأكبر. ربما لم يحدث أبداً أن قابلت أياً من آباء أجدادك. أنا لم أحظَ بتلك الفرصة أيضاً, لكني أعرف أن أحدهم كان مديراً لمدرسة قروية, و أحدهم طبيباً قروياً, و الآخر مراقباً للغابات في الهند البريطانية, و رابعهم كان محامياً مات بينما كان يتسلق الصخور في سن متقدمة. حتى لو لم تكن تعرف كيف كان يبدو والد جدك, مازال بإمكانك أن تتخيله في صورة ضبابية, ربما كصورة بنية باهتة في حافظة جلدية. الآن افعل المثل مع والده, جد جدك. استمر في تكديس الصور بعضها فوق بعض, متوغلاً في القِدَم نحو المزيد و المزيد من أجداد الأجداد. يمكنك فعل هذا حتى لو تعديت زمن اختراع التصوير: هذه تجربة ذهنية على أي حال.
كم من الأسلاف سنحتاج في تجربتنا الذهنية؟ حسناً, مجرد 185 مليون سَيَفونَ بالغرض!
ليس من السهل تخيل كومة من 185 مليون صورة. كم سيبلغ ارتفاعها؟ حسناً, لو أن كل صورة تمت طباعتها كصورة بطاقة بريدية عادية, فإن 185 مليوناً منها ستُشَكِّل برجاً بارتفاع 16,000 قدم. هذا يمثل أكثر من 40 من ناطحات سحاب نيويورك موضوعة بعضها فوق بعض. طويلة لدرجة أنه يصعب صعودها, ناهيك عن امكانية سقوطها (و هو ما سيحدث). لذا دعنا نميلها بحرص على جانبها, و نضع الصور بطول رف كتب وحيد.
كم سيبلغ طول هذا الرف؟ حوالي ثلاثة أميال.
الطرف الأقرب لرف الكتب هو صورتك, و الطرف الأبعد هو صورة لسَلَفك ال185 مليون. كيف كان يبدو؟ رجل مسن ذو شعر أشعث و لحية بيضاء؟ رجل كهف متدثر بجلد نمر؟ انس هكذا أفكار. نحن لا نعلم كيف كان يبدو بالتحديد, لكن الأحفورات منحتنا تصوراً جيداً. سَلَفَك ال185 مليون بدا هكذا -----------------------------------------------------
<


نعم, هذا صحيح, جدك ال185 مليون كان سمكة. و بالمثل كانت جدتك ال 185 مليون. و هذا منطقي و إلا لما أمكنهم التناسل و لما كنت هنا الآن.
لنمشي الآن بطول رف الصور الذي يبلغ طوله ثلاثة أميال, نستخرج الصور واحدةً تلو الأخرى و ننظر إليها. كل صورة تظهر مخلوقاً ينتمي لنفس النوع في الصورتين السابقة و التالية لها. كل واحدة تبدو تماماً كَجارَتَيّها في الصف – أو على الأقل بنفس مقدار الشبه بين أب و ابنه. على الرغم من ذلك لو مشيت مباشرةً من أحد طرفي الرف إلى الطرف الآخر, ستجد بشرياً عند أحدهم و سمكة عند الآخر. و كثير من الأسلاف الآخرين المثيرين للإهتمام فيما بينهما, و هم كما سنرى قريباً يتضمنون بعض الحيوانات التي تبدو كالقرود, آخرين يبدون كالسعدان, و البعض الآخر يبدو كالزبابة – حيوان قارض -, و هكذا. كل منهم يبدو كجارَيه في الصف, لكن لو حدث أن التقطت صورتين من مكانين متباعدين في الصف ستبدوان مختلفَتَيّن جداً, و إذا تتبعت الصف بدءاً من البشر متوغلاً في الزمن بشكلٍ كافٍ, ستنتهي إلى سمكة. كيف لهذا أن يحدث؟
في الحقيقة, ليس استيعاب الأمر بهذه الصعوبة. فنحن معتادون إلى حد كبير على قدرة التغييرات التدريجية خطوة صغيرة بخطوة, واحدة تلو الأخرى على إحداث تغيير كبير. كنت رضيعاً في وقت ما و لم تعد كذلك الآن. و عندما يتقدم بك العمر كثيراً سيتغير مظهرك مجدداً. على الرغم من ذلك, عندما تصحو من نومك كل يوم فأنت الشخص ذاته الذي كنته الليلة الفائتة. الرضيع يكبر ليتعلم المشي, ثم يكون طفلاً, ثم مراهقاً, ثم شابأ صغيراً, ثم شاباُ يافعاً, ثم كهلاً بعد ذلك. و التغيير يتم بشكل تدريجي. ليس باستطاعتك يوماً أن تقول " هذا الشخص توقف فجأةً عن كونه رضيعاً و أصبح طفلاً". لم يحدث أن قلت ذات يوم: "بالأمس كان ذلك الرجل يافعاً, و الآن صار مسناً".
هذا يساعدنا على فهم تجربتنا الذهنية التي تأخذنا إلى الخلف 185 مليونأ من الأجيال عبر أسلاف الأسلاف وصولاً إلى سمكة. و قد نعكس الإتجاه متقدمين في الزمن, و هو ما حدث عندما قام سلفك سَمَكيّ الصفات بإنجاب طفل سَمَكيّ الصفات, الذي أنجب بدوره طفلاً سَمَكيّ الصفات, والذي أنجب بدوره طفلاً...و هكذا, 185 مليون (بالتدريج أقل سَمَكيّة) جيلاً. انتهت إليك.
إذا فقد كان الأمر تدريجياً جداً – تدريجي لدرجة أنك لن تلحظ فارقاً إذا عدت ألف سنةٍ إلى الوراء. و حتى عشرة آلاف سنة, و هو ما يعني أنك عدت 400 جيل من أسلافك. أو بالأحرى, سوف تلاحظ العديد من التغييرات الطفيفة على طول الطريق, لأنه لا أحد يبدو كوالده تماماً. لكنك لن تلحظ توجهاً عاماً. عشرة آلاف عام من الزمن سابقة للبشر الحاليين ليست كافية لتظهر توجهاً. صورة سلفك الذي ينتمي لعشرة آلاف سنة فائتة لن تختلف عن البشر الحاليين, بالطبع لو استثنينا الاختلافات الظاهرية في شكل الملابس و الشعر و اللحية. لن يختلف عنّا إلا بمقدار ما يختلف بعض البشر الحاليين عن البعض الآخر.
ماذا عن مائة ألف سنة, حيث ستقف إزاء سلفك الذي سبقك ب 4000 جيل؟ حسناً, الآن قد يكون هناك تغييراً ملحوظاً. ربما ازدياد طفيف في سماكة الجمجمة, خاصة تحت الحواجب. لكنه سيظل فقط طفيفاً. لنعُد الآن أكثر في الزمن. لو أنك تجاوزت المليون سنة الأولى في الرف, فإن صورة سلفك الذي سبقك ب 50000 جيل ستكون مختلفة بالقدر الذي يمكننا من تصنيفها كنوع مختلف. النوع الذي نسميه “Homo Erectus”. البشر اليوم كما تعلم معروفون بال “Homo Sapiens”. “Homo Erectus”و“Homo Sapiens” لن يتمكنوا في الغالب من التناسل معاً. و حتى لو أمكن ذلك, لن يتمكن طفلهما من الإنجاب – بنفس الشكل التي لا يتمكن به البغل تقريباً في كل الأحوال من التكاثر(سنرى التبرير في الفصل القادم), و البغل الذي هو نتيجة تزاوج حمار و فرسة.


مرةً أخرى, كل شيء تدريجيّ. أنت “Homo Sapiens”و سلفك الذي يسبقك ب 5000 جيل كان “Homo Erectus”. لكن لم يحدث أبداً أن قام أحد ال “Homo Erectus”فجأة بإنجاب طفل من ال“Homo Sapiens”.
لذا فإن سؤال "من كان أول البشر و متى عاش؟" ليس له إجابة محددة. إنها إجابة غامضة نوعاً ما, مثل إجابة سؤال " متى توقفت عن كونك رضيعاً و أصبحت طفلاً؟". في نقطةٍ ما, ربما منذ أقل من مليون سنة لكن أكثر من مائة ألف سنة, كان أسلافنا مختلفين عنّا لدرجة أن شخصاً معاصراً لن يكون بإمكانه أن يتناسل معهم لو حدث أن التقوا.
ما إذا كان بمقدرتنا أن ندعو ال“Homo Erectus” بشراً هو سؤال مختلف. إنه سؤال يتمحور حول كيفية استعمالك للمفردات – سؤال عن دلالات الألفاظ. ربما يحلو لبعض الناس الناس تسمية الحمار الوحشي بالحصان المخطط, لكن البعض الآخر قد يفضل أن يحتفظ بالإسم "حصان" خاصاً بالنوع الذي نمتطيه. هو مجرد سؤال آخر عن دلالات الألفاظ. قد تفضل الإحتفاظ بكلمات "شخص", "رجل" و "امرأة" لتطلقها على ال“Homo Sapiens”. هذا يعود لك. لكن لا أحد سيرغب بإطلاق لفظة "رجل" على سلفك السمكي الذي سبقك ب 185 مليون جيل. سيكون ذلك سخيفاً, حتى لو كان هناك سلسلة متصلة تصلكما و كانت كل حلقة من تلك السلسة هي من نفس النوع الذي تنتمي إليه جارتيها السابقة و اللاحقة.

Wednesday, July 25, 2012

سحر الحقيقة : الفصل الثاني- المقطع الأول

ترجمة
"سحر الحقيقة, كيف نميز ما هو حقيقي بالفعل"
تأليف "ريتشارد دوكنز"

الرسومات التوضيحية  "ديف ماكين"
الفصل الثاني - المقطع الأول
من كان أول البشر؟


معظم فصول هذا الكتاب تم عنونتها بسؤال. قصدت بذلك أن أجيب عن السؤال أو على الأقل أعطي أفضل إجابة ممكنة, إجابة العلم. لكني عادةً ما أبادر بإجابة أسطورية لأنها تبدو أكثر إثارةً و جذباً, و لأن الناس على مر العصور آمنت بها. بعضهم لا يزال.
كل الشعوب في أرجاء العالم لديها أساطير نشأة تفسر من أين أتى البشر. العديد من أساطير النشأة عند القبائل تقتصر في حديثها على تلك القبائل بالذات كما لو أنه ليس هناك قبائل أخرى! بنفس الطريقة, العديد من القبائل لديها قاعدة تنص على عدم جواز قتل الناس, لكن اتضح أن "الناس" تعني فقط الآخرين من أبناء قبيلتك. قتل أبناء القبائل الأخرى لا بأس به!

إليك أسطورة نشأة نموذجية ترجع لمجموعة من سكان تسمانيا الأصليين. إله يُدعى "مُويني" لحقت به الهزيمة من قِبَل إله منافس يُدعى "درومردينر" بعد معركة مريرة جرت بين النجوم. مُويني هوى نحو تسمانيا ليموت. أراد قبل موته أن يبارك مثواه الأخير, لذا قرر أن يخلق البشر. لكنه كان في عجلةٍ من أمره لعلمه بأنه يموت لدرجة أنه نسي أن يخلق للبشر رُكَب. و في لحظة غاب فيها ذهنه ( لانشغاله بورطته بلا شك) خلق للبشر ذيولاً طويلة كالكنجارو, مما يعني أنهم لن يستطيعوا الجلوس, ثم مات. عانى الناس من ذيول الكنجارو خاصتهم و عدم امتلاكهم لرُكَب. و جأروا بالشكوى للسماء لتساعدهم.
            درومردينر العظيم, الذي كان لا يزال يجوب السماء صاخباً مستعرضاً انتصاره سمع شكواهم و هبط إلى تسمانيا ليستطلع الأمر. أشفق على الناس, و من ثم منحهم رُكَباً قابلة للطي و قَطَع ذيول الكنجارو غير المريحة ليتمكنوا من الجلوس في النهاية. و عاشوا بسعادة بعد ذلك.
من حين لآخر نعثُر بنسخة مختلفة من ذات الأسطورة. ليس ذلك مُستَغرباً لأن الناس يميلون عادةً لتعديل التفاصيل بينما يحكون القصص حول نار المخيم, لذلك تتباعد النسخ المحلية من ذات القصة. في رواية أخرى من تلك الأسطورة التسمانية, مويني خلق أول انسان في السماء,اسمه بارليفر. بارليفر لم يستطع الجلوس لامتلاكه ذيل كنجارو و رُكَباً غير قابلة للطي. كما في السابق, الإله البارز المنافس درومردينر أتى لإنقاذ الموقف. منح بارليفر رُكَباً مناسبة و قطع ذيله, مداوياً الجرح بالشحم. بارليفر هبط لاحقاً إلى تسمانيا متخذاً الطريق السماوي ( درب اللبانة).

كان للقبائل العبرانية في الشرق الأوسط إله وحيد نظروا إليه باعتباره الأعظم بين آلهة القبائل المنافسة. كان له عدة أسماء, لم يكن مسموحاً لهم التلفظ بأحدها.خلق ذلك الإله أول انسان من تراب و أسماه آدم ( و الذي يعني "رجل"). تعمد ذلك الإله أن يخلق آدم على صورته. في الحقيقة, معظم الآلهة على مر التاريخ تم تمثيلها على هيئة رجال (و أحياناً نساء), لكن غالباً بحجم أكبر و دائماً بقدرات فوق طبيعية.
أسكن الرب آدم في جنة جميلة تُسَمَّى عدن عامرة بالأشجار التي سُمِحَ لآدم أن يأكل من ثمارها مع استثناء وحيد. الشجرة المُحَّرمة كانت "شجرة معرفة الخير و الشر", ترك الربُ آدمَ واثقاً من أنه لن يقرب ثمارها.
أدرك الإله لاحقاً أن آدم قد يحس بالوحدة و أراد أن يتصرف إزاء ذلك. وفي تلك النقطة – كما في قصة درومردينر و مويني – هناك نسختين من الأسطورة, كلتاهما وردت في سِفر التكوين. في النسخة الأكثر تشويقاً, خلق الرب كل الحيوانات مُسَخَّرين لآدم, ثم لاحظ أن شيئاً ما لا يزال مفقوداً. امرأة! لذا أعطى آدم مُخًّدِراً عاماً, قام بفتح شق و انتزع أحد الأضلاع ثم خاطه مجدداً. قام بعدها بتنشئة امرأة من ذلك الضلع. أسماها حواء و قدمها لآدم كزوجة.
لسوء الحظ, كان هناك ثعبان شرير في الجنة, اقترب من حواء و أقنعها أن تعطي آدم ثمرة شجرة معرفة الخير و الشر المحرمة. آدم و حواء أكلا الثمرة فأدركا في التو حقيقة أنهما عاريين.
أربكهما ذلك فصنعا لنفسيهما ازارين من أوراق التين. عندما رأى الرب ذلك غضب جداً  لأنهما أكلا الثمرة و اكتسبا المعرفة – و خسرا براءتهما, كما أعتقد -. طردهما من الجنة و حكم عليهما و على نسلهما بحياة الشقاء و الألم. حتى اليوم, فإن الكثير من الناس ما زالوا يأخذون القصة السيئة لعصيان آدم و حواء على محمل الجد تحت اسم "الخطيئة الأصلية". حتى أن بعض الناس يعتقدون أننا ورثنا تلك " الخطيئة الأصلية" عن آدم و أننا مشاركون في الإثم ( على الرغم من أن العديد منهم يعترف أن آدم شخصية غير حقيقية بالأساس!).

الشعوب الشمالية التي تقطن اسكندنافيا المعروفون ب"بحارو الفايكنج" عبدوا العديد من الآلهة شأنهم شأن الاغريق و الرومان. اسم إلههم الرئيسي كان "أودين", و أحياناً كان يُدعى ب "ووتان" أو "وودن". و هو أصل كلمة "Wednesday". (“Thursday” ترجع إلى إله شمالي آخر “Thor”, إله الرعد الذي اعتاد توليده بمطرقته الهائلة.)
في ذات يوم كان أودين يمشي على الشاطيء بصحبة اخوته الذين كانوا آلهةً بدَوّرهم
فوجدوا جذعي شجر. قاموا بخلق أول رجل من جذع الشجرة الأول و أسموه "آسك", و حوَّلوا الجذع الثاني إلى أول امرأة و أسموها "امبلا". بقيامهم بخلق أول رجل و امرأة, قامت الآلهة أخوة "أودين" بنفث الحياة فيهما, ثم تلوا ذلك بمنحهما الوعي و الوجوه و القدرة على الحديث.
أتساءل لماذا جذوع الأشجار؟ لماذا ليست رقاقات الثلج أو كثبان الرمال؟ أليس من المدهش أن نتساءل من اختلق تلك القصص و لماذا؟ هل نفترض أن المختلقين الأوائل لهذه الأساطير علموا بأنها خيالية لحظةَ اختلقوها؟ أم هل تظن أن أناساً مختلفين ينتمون إلى أزمنة و أماكن مختلفة اختلقوا أجزاءً متعددة من القصص كل على حدة, ثم قام أناسٌ آخرين بتجميع أجزاء القصة في وقت لاحق بعد تعديل بعضها غير مدركين أن تلك الأجزاء هي في الأصل مختلقة؟

القصص شيءٌ رائع و كلنا يستمتع بترديدها. لكن عندما نسمع قصة مبهجة, سواءً كانت أسطورة قديمة أو خرافة حديثة انتشرت عبر الانترنت, فانه حريٌ بنا أن نقف و نتساءل ما إذا كانت القصة – أو أي جزء منها – حقيقي. لذا لنسأل أنفسنا هذا السؤال – من كان أول بشري؟ - و لنلقِ نظرة على الإجابة العلمية الصحيحة.

Monday, July 9, 2012

سحر الحقيقة : الفصل الأول - المقطع الرابع و الأخير

ترجمة
"سحر الحقيقة, كيف نميز ما هو حقيقي بالفعل"
تأليف "ريتشارد دوكنز"

الرسومات التوضيحية  "ديف ماكين"
الفصل الأول - المقطع الرابع و الأخير
السحر الهاديء للتطور

إن تحويل كائن مُعقّد الى كائن مُعقّد آخر في خطوة وحيدة – كما في القصص الخيالية – لهو بالفعل ضربٌ من الخيال. لكن تلك الكائنات المُعقّدة موجودة بالفعل. كيف نَشَأَت؟ كيف استطاعت كائنات معقّدة كالضفادع و الأسود, السعدان (البابون) و أشجار أثاب, الأمراء و اليقطينات, كائنات مثلك و مثلي أن تبرز إلى الوجود؟ ظل هذا السؤال مُحيّراً حتى وقتٍ قريب. فلم يستطع أحد أن يجيب عنه بشكل صحيح. لذلك اختلق الناس قصصاً مُحاولين الاجابة عنه. لكن السؤال أُجيب عنه لاحقاً – و ببراعة - في القرن التاسع عشر بواسطة أحد أعظم العلماء الذين شهدتهم الحياة, شارلز داروين. سأستغل باقي هذا الفصل لشرح اجابته بشكل مختصر و بأسلوب يختلف عن 
ذلك الذي انتهجه داروين نفسه.

الإجابة هي أن الكائنات المُعَقَّدة كالإنسان, والتماسيح وحتى القنبيط لم تنشأ فجأة. و إنما بالتدريج, خطوة صغيرة تتلوها أخرى بحيث يختلف بشكل ضئيل للغاية ما كان هناك بعد كل خطوة عمّا كان عليه قبلها. تخيل أنك أردت أن تُنشيءَ ضفدعاً بأرجلٍ طويلة. ربما تكون انطلاقة طيبة أن تبدأ بشيءٍ لا يختلف كثيراً بالفعل عن ما أردت الإنتهاء إليه: لنَقُل ضفدعاً بأرجلٍ قصيرة. ستتفحص ضفادعك قصيرة الأرجل و تقيس أطوال أرجُلِها. ثم تنتقي بعض الذكور و الإناث الذين يمتازون عن المجموع بأرجُل أطول قليلاً. زاوِجهم بينما تمنع أقرانهم من التزاوج نهائياً. الذكور و الإناث ذوي الأرجل الأطول ستنتج شراغفاً تنمو أرجلها لاحقاً لتصير ضفادع. قُم بعدها بقياس هذا الجيل الجديد من الضفادع و مجدداً انتقِ الذكور و الإناث ذوي الأرجل التي يزيد طولها عن المتوسط, و دعهم يتزاوجون معاً.   

بتكرار ذات الفعل لعشرة أجيال ربما تبدأ بملاحظة شيء مثير للاهتمام. متوسط طول الأرجل لمجموعة الضفادع خاصتك سيكون أكبر بشكل ملحوظ عن ذلك الخاص بالمجموعة الإبتدائية. ربما حتى وجدت أن كل الضفادع من الجيل العاشر لديها أرجل أطول من أي من تلك التي تنتمي للجيل الأول. ربما لا تكفي عشرة أجيال لتحقيق ذلك: ربما تُضطر للمتابعة لعشرين جيلاً و ربما أكثر. لكن يمكنك في النهاية أن تقول بفخر " لقد أنشأت نوعاً جديداً من الضفادع ذو أرجل أطول من تلك التي حازها النوع القديم".

لم تكن هناك حاجة لصولجان أو أي نوع من السحر. ما قمنا به هنا هو عملية تدعى "التربية الانتقائية". وهي عملية تستفيد من حقيقة أن الضفادع تتنوع فيما بينها و هذه التنوعات يتم توارثها –  بمعنى آخر, تمريرها من الآباء للأبناء عبر الجينات -. ببساطة نستطيع انشاء نوع جديد من الضفادع عن طريق تحديد أيها يتزاوج و أيها لا يفعل.

الأمر بسيط. أليس كذلك؟ لكن قيامنا بإطالة الأرجل ليس بالشيء المبهر. لقد بدأنا بضفادع على أية حال – فقط كانت ضفادع قصيرة الأرجل - . لنفترض أنك عِوضاً عن البدء بنوعية قصيرة الأرجل من الضفادع, فإنك بدأتَ بما ليس ضفدعاً على الإطلاق. لنقل شيئاً أقرب إلى السلمندر المائي. أرجُل السلمندر قصيرة للغاية إذا قورِنَت بأرجل الضفادع (أرجُل الضفادع الخلفية على الأقل), و يستخدمها السلمندر للمشي و ليس للقفز. كما أن للسلمندر ذيل طويل, بينما ليس للضفادع ذيل على الإطلاق. و السلمندر إجمالاً أطول و أنحف من معظم الضفادع. لكن بإمكانك في خلال عدة آلاف من الأجيال تحويل تجمعٍ من أفراد السلمندر إلى تجمعٍ من الضفادع, ببساطة عبر إنتقاء ذكور و إناث السلمندر التي تحمل صفات أقرب للضفادع في كل جيل و السماح لها بالتزاوج معاً, بينما تمنع أقرانها التي لا تحمل تلك الصفات من ذات الفعل. لن ترى أي تغيير بارز خلال أي مرحلة من تلك العملية. كل جيل سيشبه سابقه بشكل كبير. على الرغم من ذلك, بمجرد مرور عدد كافي من الأجيال ستلحظ أن متوسط الذيل قد صار أقصر قليلاً و متوسط الأرجل الخلفية قد صارت أطولَ قليلاً. بمرور عدد كبير جداً من الأجيال ستجد أن الأفراد ذوي الأرجل الأطول و الذيول الأقصر قد بدأوا في استخدام أرجلهم الطويلة للقفز و ليس للزحف, و هكذا.

بالطبع في السيناريو الذي وصفته للتو, تخيلنا أنفسنا كَمُرَبِّين نقوم بإنتقاء الإناث و الذكور الذين نسمح لها بالتزاوج كي نحقق نتيجة نهائية اخترناها مسبقاً. قام المزارعون بتطبيق هذا الأسلوب لآلاف السنين للحصول على ماشية و محاصيل ذات انتاجية أعلى أو مقاومة أكبر للأمراض, و هكذا. داروين كان أول من أدرك أن هذا الأسلوب يعمل حتى لو لم يكن هناك مُربِّي يقوم بالإنتقاء. داروين رأى أن الأمر كله سيتم بدون تدخل خارجي لسبب بسيط. و هو أن بعض الأفراد أقدر على البقاء فيتكاثرون, بينما الآخرين لا يفعلون.و هؤلاء الذين يعيشون  لفترة أطول يمكنهم ذلك لأنهم مُعَدُّون بشكل أفضل من الآخرين. يرث أطفال الناجين الجينات التي سمحت لآبائهم بالنجاة. سلمندراً كانت أو ضفادع, قنافذاً كانت أو هندباء, سيكون هناك دائما أفراداً أقدر على البقاء من غيرهم. لو تصادف كون الأرجل الطويلة مفيدة ( سامحةً للضفادع بالهروب من الخطرعلى سبيل المثال, أو معينةً للفهود في اصطياد الغزلان, أو للغزلان للهروب من الفهود), فإن ذلك سيقلل احتمالات موت الأفراد ذوي الأرجل الأطول و سيكون من المرجح أنها ستعيش طويلاً لتتكاثر. أيضاً, فإن المزيد من الأفراد المتاحين للتكاثر سيكونون من ذوي الأرجل الطويلة. و بالتالي ستكون هناك فرصة أكبر لتمرير جينات الأرجل الأطول من كل جيل إلى الجيل الذي يليه. بمرور الوقت سنجد أنه هناك المزيد و المزيد من الأفراد في تلك المجموعة لديهم جينات للأرجل الطويلة. و لذا سيكون التأثير بالضبط كما لو أن مصمماً ذكياً – كالمُرَبِّي البشري – قد انتقى أفراداً ذوي أرجلٍ طويلة للتزاوج. ماعدا أنه ليست هناك حاجة لمصمم كهذا: كل شيء يحدث بشكل طبيعي, بدون تدخل, كنتيجة منطقية لأن البعض يبقى لفترة أطول ليتكاثر بينما البعض الآخر لا يفعل. ولهذا السبب تُسمَّى تلك العملية "الإنتقاء الطبيعي".
بفرض مرور عدد مناسب من الأجيال, يمكن للسلمندر أن يتطور إلى ضفدع. و بمرور عدد أكبر من الأجيال يمكن للأسلاف التي تشبه الأسماك أن تتطور إلى أحفاد تبدو كالقرود. بل أنه بمرور عدد أكبر و أكبر من الأجيال يمكن للأسلاف التي تشبه كالبكتيريا أن تتطور إلى بشر. و هذا ما حدث بالضبط. هذا هو الشيء الذي وقع تاريخياً لكل حيوان أو نبات عاش على ظهر الأرض. عدد الأجيال اللازم أكبر مما يكمنك أو يمكنني تخيله, لكن العالم يربو عمره على آلاف ملايين السنين, و نحن نعرف من الحفريات أن الحياة بدأت منذ أكثر من 3500 مليون (3.5 بليون) سنة, لذا كان الوقت أكثر من كافي لحدوث التطور.

تلك هي فكرة داروين العظيمة, "التطور عن طريق الإنتقاء الطبيعي". إنها أحد أهم الأفكار التي وردت على عقل بشر.  إنها تفسر كل ما نعرفه عن الحياة على ظهر البسيطة. نظراً لمدى أهميتها سأعرِّج عليها مجدداً في فصول لاحقة. يكفي الآن أن نفهم أن التطور بطيء جداً و تدريجي. في الحقيقة, تدرج التطور هو المسؤول عن خروج نتائج معقدة كالأمير و الضفدع. في القصص السحرية, التحول من ضفدع إلى أمير ليس تدريجياً بل مفاجيء, و هو ما يجعل مثل هذه الأمور غير واقعية بالمرة. التطور هو تفسير واقعي يعمل بالفعل و يمتلك الأدلة التي تبرهن على صحته. أي تفسير يفترض أن أشكال الحياة المعقدة قد ظهرت فجأة ( بدلاً من تطورها تدريجياً خطوة بخطوة) هو تفسير كسول لا يختلف في شيء عن التفسير السحري الخيالي لتلويحة عصا العرابة.

بالنسبة لليقطينات التي تتحول إلى عربات, فإن التعويذات السحرية كتفسير هي على نفس الدرجة من عدم الواقعية كما هو الحال بالنسبة للأمراء و الضفادع. العربات لا تتطور – على الأقل ليس بالشكل الطبيعي المتاح للأمراء و الضفادع -. لكن العربات كما هي خطوط الطيران,المعاول, الحواسيب و نصال الأسهم, كلها من صنع البشر الذين تطوروا طبيعياً بالفعل. العقول و الأيدي البشرية تطورت بفعل "الانتقاء الطبيعي", كما تطورت ذيول السلمندر و أرجل الضفادع. أضحت العقول البشرية بفعل تطورها قادرة على تصميم العربات, السيارات, المقصات, السيمفونيات, الغسالات و الساعات. دعوني أقولها مرةً أخرى, لا سحر. مرة أخرى, لا تحايل. مرة أخرى, كل شييء تم تفسيره بشكل جميل و بسيط.

أنتوي فيما تبقى من هذا الكتاب أن أريك أن العالم الحقيقي – كما يُفهم علمياً – ينطوي على سحره الخاص. السحر الشِعري كما أسميه. جمالٌ ملهم هو الأكثر سحراً, لأنه حقيقي و لأننا نستطيع أن نفهم كيف يعمل. التعويذات فوق الطبيعية و الخدع المسرحية تبدو تافهة و رخيصة إذا قورنت بسحر و جمال ذلك العالم الحقيقي. "سحر الحقيقة" ليس خارقاً للطبيعة و ليس خدعة, لكنه ببساطة رائع و حقيقي. رائعٌ لأنه حقيقي.