Monday, July 9, 2012

سحر الحقيقة : الفصل الأول - المقطع الرابع و الأخير

ترجمة
"سحر الحقيقة, كيف نميز ما هو حقيقي بالفعل"
تأليف "ريتشارد دوكنز"

الرسومات التوضيحية  "ديف ماكين"
الفصل الأول - المقطع الرابع و الأخير
السحر الهاديء للتطور

إن تحويل كائن مُعقّد الى كائن مُعقّد آخر في خطوة وحيدة – كما في القصص الخيالية – لهو بالفعل ضربٌ من الخيال. لكن تلك الكائنات المُعقّدة موجودة بالفعل. كيف نَشَأَت؟ كيف استطاعت كائنات معقّدة كالضفادع و الأسود, السعدان (البابون) و أشجار أثاب, الأمراء و اليقطينات, كائنات مثلك و مثلي أن تبرز إلى الوجود؟ ظل هذا السؤال مُحيّراً حتى وقتٍ قريب. فلم يستطع أحد أن يجيب عنه بشكل صحيح. لذلك اختلق الناس قصصاً مُحاولين الاجابة عنه. لكن السؤال أُجيب عنه لاحقاً – و ببراعة - في القرن التاسع عشر بواسطة أحد أعظم العلماء الذين شهدتهم الحياة, شارلز داروين. سأستغل باقي هذا الفصل لشرح اجابته بشكل مختصر و بأسلوب يختلف عن 
ذلك الذي انتهجه داروين نفسه.

الإجابة هي أن الكائنات المُعَقَّدة كالإنسان, والتماسيح وحتى القنبيط لم تنشأ فجأة. و إنما بالتدريج, خطوة صغيرة تتلوها أخرى بحيث يختلف بشكل ضئيل للغاية ما كان هناك بعد كل خطوة عمّا كان عليه قبلها. تخيل أنك أردت أن تُنشيءَ ضفدعاً بأرجلٍ طويلة. ربما تكون انطلاقة طيبة أن تبدأ بشيءٍ لا يختلف كثيراً بالفعل عن ما أردت الإنتهاء إليه: لنَقُل ضفدعاً بأرجلٍ قصيرة. ستتفحص ضفادعك قصيرة الأرجل و تقيس أطوال أرجُلِها. ثم تنتقي بعض الذكور و الإناث الذين يمتازون عن المجموع بأرجُل أطول قليلاً. زاوِجهم بينما تمنع أقرانهم من التزاوج نهائياً. الذكور و الإناث ذوي الأرجل الأطول ستنتج شراغفاً تنمو أرجلها لاحقاً لتصير ضفادع. قُم بعدها بقياس هذا الجيل الجديد من الضفادع و مجدداً انتقِ الذكور و الإناث ذوي الأرجل التي يزيد طولها عن المتوسط, و دعهم يتزاوجون معاً.   

بتكرار ذات الفعل لعشرة أجيال ربما تبدأ بملاحظة شيء مثير للاهتمام. متوسط طول الأرجل لمجموعة الضفادع خاصتك سيكون أكبر بشكل ملحوظ عن ذلك الخاص بالمجموعة الإبتدائية. ربما حتى وجدت أن كل الضفادع من الجيل العاشر لديها أرجل أطول من أي من تلك التي تنتمي للجيل الأول. ربما لا تكفي عشرة أجيال لتحقيق ذلك: ربما تُضطر للمتابعة لعشرين جيلاً و ربما أكثر. لكن يمكنك في النهاية أن تقول بفخر " لقد أنشأت نوعاً جديداً من الضفادع ذو أرجل أطول من تلك التي حازها النوع القديم".

لم تكن هناك حاجة لصولجان أو أي نوع من السحر. ما قمنا به هنا هو عملية تدعى "التربية الانتقائية". وهي عملية تستفيد من حقيقة أن الضفادع تتنوع فيما بينها و هذه التنوعات يتم توارثها –  بمعنى آخر, تمريرها من الآباء للأبناء عبر الجينات -. ببساطة نستطيع انشاء نوع جديد من الضفادع عن طريق تحديد أيها يتزاوج و أيها لا يفعل.

الأمر بسيط. أليس كذلك؟ لكن قيامنا بإطالة الأرجل ليس بالشيء المبهر. لقد بدأنا بضفادع على أية حال – فقط كانت ضفادع قصيرة الأرجل - . لنفترض أنك عِوضاً عن البدء بنوعية قصيرة الأرجل من الضفادع, فإنك بدأتَ بما ليس ضفدعاً على الإطلاق. لنقل شيئاً أقرب إلى السلمندر المائي. أرجُل السلمندر قصيرة للغاية إذا قورِنَت بأرجل الضفادع (أرجُل الضفادع الخلفية على الأقل), و يستخدمها السلمندر للمشي و ليس للقفز. كما أن للسلمندر ذيل طويل, بينما ليس للضفادع ذيل على الإطلاق. و السلمندر إجمالاً أطول و أنحف من معظم الضفادع. لكن بإمكانك في خلال عدة آلاف من الأجيال تحويل تجمعٍ من أفراد السلمندر إلى تجمعٍ من الضفادع, ببساطة عبر إنتقاء ذكور و إناث السلمندر التي تحمل صفات أقرب للضفادع في كل جيل و السماح لها بالتزاوج معاً, بينما تمنع أقرانها التي لا تحمل تلك الصفات من ذات الفعل. لن ترى أي تغيير بارز خلال أي مرحلة من تلك العملية. كل جيل سيشبه سابقه بشكل كبير. على الرغم من ذلك, بمجرد مرور عدد كافي من الأجيال ستلحظ أن متوسط الذيل قد صار أقصر قليلاً و متوسط الأرجل الخلفية قد صارت أطولَ قليلاً. بمرور عدد كبير جداً من الأجيال ستجد أن الأفراد ذوي الأرجل الأطول و الذيول الأقصر قد بدأوا في استخدام أرجلهم الطويلة للقفز و ليس للزحف, و هكذا.

بالطبع في السيناريو الذي وصفته للتو, تخيلنا أنفسنا كَمُرَبِّين نقوم بإنتقاء الإناث و الذكور الذين نسمح لها بالتزاوج كي نحقق نتيجة نهائية اخترناها مسبقاً. قام المزارعون بتطبيق هذا الأسلوب لآلاف السنين للحصول على ماشية و محاصيل ذات انتاجية أعلى أو مقاومة أكبر للأمراض, و هكذا. داروين كان أول من أدرك أن هذا الأسلوب يعمل حتى لو لم يكن هناك مُربِّي يقوم بالإنتقاء. داروين رأى أن الأمر كله سيتم بدون تدخل خارجي لسبب بسيط. و هو أن بعض الأفراد أقدر على البقاء فيتكاثرون, بينما الآخرين لا يفعلون.و هؤلاء الذين يعيشون  لفترة أطول يمكنهم ذلك لأنهم مُعَدُّون بشكل أفضل من الآخرين. يرث أطفال الناجين الجينات التي سمحت لآبائهم بالنجاة. سلمندراً كانت أو ضفادع, قنافذاً كانت أو هندباء, سيكون هناك دائما أفراداً أقدر على البقاء من غيرهم. لو تصادف كون الأرجل الطويلة مفيدة ( سامحةً للضفادع بالهروب من الخطرعلى سبيل المثال, أو معينةً للفهود في اصطياد الغزلان, أو للغزلان للهروب من الفهود), فإن ذلك سيقلل احتمالات موت الأفراد ذوي الأرجل الأطول و سيكون من المرجح أنها ستعيش طويلاً لتتكاثر. أيضاً, فإن المزيد من الأفراد المتاحين للتكاثر سيكونون من ذوي الأرجل الطويلة. و بالتالي ستكون هناك فرصة أكبر لتمرير جينات الأرجل الأطول من كل جيل إلى الجيل الذي يليه. بمرور الوقت سنجد أنه هناك المزيد و المزيد من الأفراد في تلك المجموعة لديهم جينات للأرجل الطويلة. و لذا سيكون التأثير بالضبط كما لو أن مصمماً ذكياً – كالمُرَبِّي البشري – قد انتقى أفراداً ذوي أرجلٍ طويلة للتزاوج. ماعدا أنه ليست هناك حاجة لمصمم كهذا: كل شيء يحدث بشكل طبيعي, بدون تدخل, كنتيجة منطقية لأن البعض يبقى لفترة أطول ليتكاثر بينما البعض الآخر لا يفعل. ولهذا السبب تُسمَّى تلك العملية "الإنتقاء الطبيعي".
بفرض مرور عدد مناسب من الأجيال, يمكن للسلمندر أن يتطور إلى ضفدع. و بمرور عدد أكبر من الأجيال يمكن للأسلاف التي تشبه الأسماك أن تتطور إلى أحفاد تبدو كالقرود. بل أنه بمرور عدد أكبر و أكبر من الأجيال يمكن للأسلاف التي تشبه كالبكتيريا أن تتطور إلى بشر. و هذا ما حدث بالضبط. هذا هو الشيء الذي وقع تاريخياً لكل حيوان أو نبات عاش على ظهر الأرض. عدد الأجيال اللازم أكبر مما يكمنك أو يمكنني تخيله, لكن العالم يربو عمره على آلاف ملايين السنين, و نحن نعرف من الحفريات أن الحياة بدأت منذ أكثر من 3500 مليون (3.5 بليون) سنة, لذا كان الوقت أكثر من كافي لحدوث التطور.

تلك هي فكرة داروين العظيمة, "التطور عن طريق الإنتقاء الطبيعي". إنها أحد أهم الأفكار التي وردت على عقل بشر.  إنها تفسر كل ما نعرفه عن الحياة على ظهر البسيطة. نظراً لمدى أهميتها سأعرِّج عليها مجدداً في فصول لاحقة. يكفي الآن أن نفهم أن التطور بطيء جداً و تدريجي. في الحقيقة, تدرج التطور هو المسؤول عن خروج نتائج معقدة كالأمير و الضفدع. في القصص السحرية, التحول من ضفدع إلى أمير ليس تدريجياً بل مفاجيء, و هو ما يجعل مثل هذه الأمور غير واقعية بالمرة. التطور هو تفسير واقعي يعمل بالفعل و يمتلك الأدلة التي تبرهن على صحته. أي تفسير يفترض أن أشكال الحياة المعقدة قد ظهرت فجأة ( بدلاً من تطورها تدريجياً خطوة بخطوة) هو تفسير كسول لا يختلف في شيء عن التفسير السحري الخيالي لتلويحة عصا العرابة.

بالنسبة لليقطينات التي تتحول إلى عربات, فإن التعويذات السحرية كتفسير هي على نفس الدرجة من عدم الواقعية كما هو الحال بالنسبة للأمراء و الضفادع. العربات لا تتطور – على الأقل ليس بالشكل الطبيعي المتاح للأمراء و الضفادع -. لكن العربات كما هي خطوط الطيران,المعاول, الحواسيب و نصال الأسهم, كلها من صنع البشر الذين تطوروا طبيعياً بالفعل. العقول و الأيدي البشرية تطورت بفعل "الانتقاء الطبيعي", كما تطورت ذيول السلمندر و أرجل الضفادع. أضحت العقول البشرية بفعل تطورها قادرة على تصميم العربات, السيارات, المقصات, السيمفونيات, الغسالات و الساعات. دعوني أقولها مرةً أخرى, لا سحر. مرة أخرى, لا تحايل. مرة أخرى, كل شييء تم تفسيره بشكل جميل و بسيط.

أنتوي فيما تبقى من هذا الكتاب أن أريك أن العالم الحقيقي – كما يُفهم علمياً – ينطوي على سحره الخاص. السحر الشِعري كما أسميه. جمالٌ ملهم هو الأكثر سحراً, لأنه حقيقي و لأننا نستطيع أن نفهم كيف يعمل. التعويذات فوق الطبيعية و الخدع المسرحية تبدو تافهة و رخيصة إذا قورنت بسحر و جمال ذلك العالم الحقيقي. "سحر الحقيقة" ليس خارقاً للطبيعة و ليس خدعة, لكنه ببساطة رائع و حقيقي. رائعٌ لأنه حقيقي.


No comments:

Post a Comment