Friday, February 17, 2012

سحر الحقيقة : الفصل الأول - الجزء الثالث


"سحر الحقيقة, كيف نميز ما هو حقيقي بالفعل"

تأليف "ريتشارد دوكنز"
الرسومات التوضيحية ل "ديف ماكين"

إليكِ مُلهمَتي..إليكِ إيما :)

الفصل الأول - المقطع الثالث

العلم و الغيبيات: التفسير و عدوه

إذاً تلك هي "الحقيقة". و تلك هي الطرق التي نستطيع بواسطتها تمييز الشيء الحقيقي عن غيره. كل فصلٍ من فصول هذا الكتاب سيتم تخصيصه لاستعراض جانب معين من الحقيقة. الشمس على سبيل المثال, الزلازل, قوس قُزَح أو الأنواع المختلفة من الحيوانات. أريد الآن أن انتقل الى الكلمة الرئيسية الأخرى في العنوان: السحر. السحر كلمة مراوِغة, تأتي عادةً في سياقاتٍ ثلاثَ مختلفة, و أرى من الضروري البدء بالتمييز بينها. سأسمي الأول "السحر الخارق للطبيعة", الثاني "السحر المسرحي" و الثالث - و هو معنايَ المُفَضًّل وما عنيتُه في عنواني - السحر بمعناه الشِعري.

السحر الخارق للطبيعة هو ذلك الذي يطالعنا في الأساطير و الحكايات الخيالية. ( و "المعجزات" أيضاً. رغم أني سأدع ذلك جانباً الآن على أن أعود إليه في الفصل الأخير). إنه سحر مصباح علاء الدين, تعاويذ السحرة, الأَخَوان جريم , هانز كريستيان اندرسون و ج. ك. رولينج . إنه السحر الخيالي الذي يطالعنا عندما تلقي ساحرة بتعويذتها لتمسخ الأمير في هيئة ضفدع أو عندما تحوِّل العرابِّة يقطينة إلى عربة لامعة. ربما غمرنا الحنين كلما تذكرنا تلك القصص التي تعود لفترة الطفولة, و ربما لا يزال الكثير منّا يستمتعُ بها عندما تُقدَّم خلال عروض الكريسماس التقليدية. لكن كلنا يعلم أن هذا النوع من السحر مجرد خيال لا يتمتع بامكانية الحدوث على أرض الواقع.

على النقيض من ذلك, يحلُ السحر المسرحي ضيفاً على الواقع جالباً البهجة. أو بالأحرى يحلُ "شيء ما" على الواقع رغم أنه قد يختلف عمّا يظن المشاهدون أنه يحدث فعلياً. يقوم أحدهم على المسرح – لسببٍ ما يكون دائماً "أحدهم", لذلك سأستعمل "أحدهم" مع التأكيد على حقك في استخدام "إحداهُنَّ" إذا رغبت بذلك – بخداعنا بأن يلقي في روعِنا أن شيئاً مذهلاً قيد الحدوث – و ربما بدا حتى شيئاً خارقاً للطبيعة - بينما ما يحدث حقاً هو شيءٌ مختلفٌ تماماً. فإمكانية تحويل المناديل الحريرية الى أرانب لا تتعدى في قليل أو كثير إمكانية تحويل الضفادع الى أُمراء. ما رأيناه على المسرح لا يعدو كونه خُدعة. أبصارُنا تخدعنا, أو بالأحرى يبذل الساحر قَصَارى جَهده ليخدع أبصارنا, ربما عن طريق استخدام الكلمات بذكاء لتشتيت إنتباهنا عمّا يفعله بيديه.

يتسم بعض السحرة بالمصداقية لدرجة أنهم قد يخرجون عن برنامج العرض للتأكد من أن الجمهور يعي جيداً أن ما يحدث أمامه محض خدعة. يخطر ببالي الآن أشخاص ك"جيمس راندي", "بين و تيلر" أو "ديرن براون". رغم أن هؤلاء المؤَدُّون الرائعون لا يخبرون جمهورهم في العادة كيف أدوا الخُدعة – قد يتم الإطاحة بهم خارج دائرة السحر (نادي السَحَرة) حال قيامهم بذلك – إلا أنهم يحرصون على التأكد من أن الجمهور يعلم أن العرض لا يتضمن سحراً خارقاً للطبيعة. هناك آخرون لا يصَرِّحون بوضوح بأن الأمر مجرد خدعة, لكنهم في المقابل لا يطرحون إدعاءات مبالغ فيها بخصوص عروضهم, فقط يغمرون الجمهور بنشوة الإحساس بأن شيئاً غامضاً قد وقع دون الكذب بشكل مباشر بخصوص ماهيته. لكن لسوء الحظ, يتسم بعض السَحَرة بالتضليل المتعمد. يتظاهر هؤلاء بأنهم يتمتعون بقدرات "فوق طبيعية" أو "غير عادية" حقيقية: لرُبما ادعوا أنهم يملكون القدرة على ثني المعادن أو ايقاف الساعات بقوة التفكير المجردة. بعض أولئك المدَّعين – ربما ينطبق عليهم أكثر وصف "الدجالين" – يتحصلون على أموال طائلة من شركات البترول و التعدين بدعوى قدرتهم - باستخدام "قوى روحانية" - على تحديد المواقع الأمثل للتنقيب. بعض الدجالين الآخرين يستغلون الأشخاص الذين يستنزفهم الحزن عن طريق إدعاء القدرة على التواصل مع الأموات. عندما يحدث هذا يتعدى الأمر مجرد كونه متعة أو تسلية الى التعيّش على سذاجة الناس و أتراحهم. لكن إحقاقاً للحق ربما لا يكون كل هؤلاء الأشخاص دجالين, بعضهم يعتقد أنه يتحدث الى الأموات بالفعل.

النوع الثالث من السحر هو ما عنَيته في عنواني: السحر بمعناه الشِعري. عندما تدمعُ أعينُنا حالَ سماعِ مقطوعة موسيقية جميلة, و نَصِف الآداء بال"ساحر". عندما نحدّق بالنجوم في ليلة محاق مظلمة بمعزل عن أضواء المدينة, منقطعي الأنفاس من النشوة, و نَصِفُ المشهد بأنه "سحرٌ خالص". ربما إستخدمنا ذات الكلمة لوصف مشهد غروب رائع, أو منظر في جبال الألب, أو قوس قزح امتثل أمام سماءٍ غائمة. بهذه النظرة "سحري" تعني ببساطة: جمال ينفذ الى أعماقك, يبهجك, يقشعر له بدنك, و تشعر معه بروعة الحياة. ما أأمل أن أُريك اياه في هذا الكتاب هو أن الحقيقة – المُسَلَّمَات من عالم الواقع كما نفهمها من خلال الطرق العلمية – هي "سحرية" طبقاً للمعنى الثالث, المعنى الشعري, المعنى الذي يلهمك قيمةَ كونك على قيد الحياة.

أريد الآن أن أتحول الى فكرة "الغيبيات" لأوضّح لمَ تعجز عن تقديم تفسير حقيقي للأشياء التي نراها في العالم والكون من حولنا. عندما تقدم تفسيراً غيبياً لشيءٍ ما, فان هذا لا يُعَدُّ تفسيراً على الطلاق. بل الأسوأ انك تكونُ قد حكمتَ باستحالة ايجاد تفسير مستقبلاُ. لماذا أقول ذلك ؟ أي شيء "غيبي" هو بالضرورة خارج نطاق التفسيرات الطبيعية, خارج نطاق العلم و طريقة التفكير العلمية المؤسَسَة بعناية, المُجَربة و المُختَبرة و التي يرجع اليها الفضل في القفزات المعرفية الهائلة التي تمتعنا بها طوال ما ينيف على أربعمائة عام. عندما تقول أن شيئاً ما وقع بشكل غيبي - فوق طبيعي – فان هذا لا يعني فقط أننا "لا نفهمه", بل يعني "أننا لن نفهمه قط, فلا تحاول".

يتخذ العلم المسلك المضاد تماماً. فالعلم يثابر لتغطية القصور- الحالي – لتفسير كل شيء. و يستخدم ذلك كمنطلق للاستمرار بطرح الأسئلة و بناء النماذج الممكنة و اختبارها حتى نستطيع أن نشق طريقنا خطوة بخطوة نحو الحقيقة. لو حدث شيءٌ ما و كان مناقضاً لفهمنا الحالي للواقع, فسيرى العلماء في ذلك تحدياً لنموذجنا الحالي يتطلب منا تنحيته, أو تغييره على الأقل. هذه التعديلات و الاختبارات المتكررة هي ما يقودنا أقرب ثم أقرب نحو الحقيقة.

ما ظُنُّكَ بمُحَقِّق واجهته قضية قتل, فاختار ان يتكاسل حتى عن محاولة حل لغز القضية و خَلُصَ الى أن السبب "فوق طبيعي"؟. تاريخ العلم على امتداده يثبت لنا أن الأشياء التي ظن الناس حيناً أن لها سبباً فوق طبيعي – الآلهة (حال رضاها أو غضبها), الشياطين, الساحرات, الأرواح, اللعنات و التعاويذ - . هذه الأشياء في الحقيقة لها تفسيرات طبيعية: تفسيرات يمكننا فهمها ووضعها تحت الاختبار و الوثوق بها. ليس هناك مبرر على الاطلاق للاعتقاد بأن الأشياء التي لم يجد لها العلم تفسيراً طبيعياً بعد سيتضح أن لها تفسيرات فوق طبيعية - غيبية -, بنفس قدر عدم وجود مبرر للاعتقاد بأن الزلازل و البراكين و الأمراض مرجعها غضب الالهة كما اعتقد الناس ذات يوم.

بالطبع لا أحد يعتقد حقاً أنه بالامكان تحويل ضفدع الى أمير – أم أنه كان تحويل أمير الى ضفدع؟ لا أتذكر – أو يقطينة الى عربة تجرها الخيول. لكن, هل حدث أن سألت نفسك لماذا تستحيل مثل هذه الأشياء؟ هناك طرق عديدة لتوضيح الأمر, هاكم المفضلة لدي. الضفادع و العربات أشياء معقدة مكونة من العديد من الأجزاء التي يجب أن تُجمَع معاً بطريقة خاصة و بنمط خاص لا يتأتى عن طريق الصدفة – ناهيك عن تلويحة بالعصا -. هذا ما تعنيه كلمة "مُعقّد". من الصعب جداً أن تصنع شيئاً معقداً كضفدع أو عربة. لكي تصنع عربة تحتاج أن تجمع كل الأجزاء معاً بالشكل الصحيح, كما تحتاج الى مهارات نجار و غيره من الحرفيين. فالعربات لا تنشأ هكذا بالصدفة أو بطرقعة صوابعك و قول "آبرا كادابرا".
العربة تتكون من أجزاء هيكلية, معقدة و فعّالة: العجلات و المحاور, النوافذ و الأبواب, الزنبرك و المقاعد المبطنة. ربما كان من السهل نسبياً تحويل شيء معقد كالعربة الى شيء بسيط – كالرماد على سبيل المثال - .
فكل ما ستحتاجه العرّابة هو موقد لحام في عصاها و من ثَمَّ يسهل تحويل أي شيء تقريباً الى رماد. لكن لا أحد يستطيع أن يأخذ كومة من الرماد – أو يقطينة – و يحولها الى عربة, لأن العربة معقدة جداً. و ليست معقدة فحسب, لكنها معقدة بشكل مفيد: يَفيدُ الناس منها بالتنقل في حالتنا هذه.

لنسهل الأمر قليلاً على العرابّة, و نفترض أنها بدلأ من أن تطلب يقطينة فانها طلبت كل الأجزاء التي تلزمك لتركيب العربة مختلطةً معاً في صندوق,على غرار الاجزاء التي نبني منها نماذج الطائرات. الأجزاء التي سنستخدمها لبناء العربة تشتمل على المئات من ألواح الخشب و ألواح الزجاج, قضبان الحديد, حشوات التبطين و أفراخ الجلد , و لا ننسى المسامير و البراغي و علب الغراء التي ستثبِّت كل ذلك بعضه ببعض. لنفترض الآن أنها بدلاً من أن تقرأ التعليمات و تجمع الأجزاء في تسلسل مُرَّتَب, قامت بوضع كل الاجزاء في حقيبة كبيرة الحجم ثم رَجَّتها بشدة. ما هي احتمالات أن الأجزاء سوف تجتمع معاً بالشكل الصحيح الذي ينتج عنه عربة تعمل؟ الاجابة هي: صفر صريح. جزء من المنطق الذي يدعم تلك الاجابة هو الرقم الهائل من الطرق التي يمكنك بها أن تجمع تلك الأجزاء و المكونات المختلطة دون أن تنتهي الى عربة تعمل – أو أي شيء يعمل -

لو أخذت حمولة من الأجزاء و قمت بهزها بشكل عشوائي, ربما نتج عن ذلك من حين لآخر نمط يمكن اعتباره مفيداً, أو حتى مميزاً بشكلٍ ما. لكن احتمالات حدوث ذلك ضئيلة. ضئيلة جداً بالفعل مقارنةً بعدد المرات التي سينتج عنها أنماط لا يمكن اعتبارها أكثر من كومة من الخردوات. هناك ملايين الطرق التي يمكن بواسطتها خلط كَومة من الأجزاء و قطع الغيار مراراً و تكراراً. ملايين الطرق التي تحولهم الى... حسناً, كومة أخرى من الأجزاء و قطع الغيار. كل مرة تخلط فيها الأجزاء, تحصل على كومة فريدة من الخردوات لم يسبق لك رؤيتها من قبل. لكن قلة قليلة فقط من تلك الملايين من الكومات المحتملة سيكون لها ثَمَّة فائدة. أو حتى تكون مميزة أو جديرة بالذكر على وجه من الوجوه.
يمكننا في بعض الأحيان أن نحسب بالتمام عدد الطرق التي يمكننا من خلالها اعادة خلط مجموعة من القطع. كما في حالة مجموعة من بطاقات اللعب على سبيل المثال, حيث كل قطعة تمثلها بطاقة لعب واحدة. لنفترض ان الشخص المسؤول عن توزيع الورق يقوم بخلطه و من ثم توزيعه على أربعة لاعبين بحيث ينال كل منهم 13 بطاقة. أتلقى نصيبي من البطاقات و ألهث في انفعال. لقد حصلت على مجموعة مكونة من 13 بستوني. كل أوراق البستوني المتاحة.

تمنعني دهشتي من الاستمرار في اللعب فأعرض أوراقي على اللاعبين الثلاثة الآخرين مُدركاً أنه سيتملكهم من الدهشة ما تملكني. لكن تلك الدهشة تبلغ مداها عندما يقومون واحداً تلو الآخر بالقاء أوراقهم على الطاولة. كل منهم لديه مجموعة مثالية: أحدهم لديه 13 ورقة قلب. و الآخر 13 ورقة ماس أما الأخير فلديه 13 ورقة نادي .
هل هذا سحر "فوق طبيعي"؟ ربما زُيِّنَ لنا هذا الظن. يستطيع الرياضيون حساب احتمالية حدوث هذا التوزيع المييز الناشيء عن صدفة بحتة. تبين أن هذه الاحتمالية صغيرة بشكل قد يقضي باستحالتها. 1 لكل 536,447,737,765,488,792,839,237,440,000. لا أدري ان كان يمكنني حتى نطق الرقم.ربما لو جلست للعب الورق لمدة تريليون سنة لحصلت على هذا التوزيع المثالي في مناسبة واحدة. لكن - و هذا هو المهم – هذا التوزيع لا يختلف في ندرته عن أي توزيع محتمل آخر للبطاقات. احتمالية أي توزيع بعينه لل 52 بطاقة هو 1 لكل 536,447,737,765,488,792,839,237,440,000. لأن هذا هو العدد الاجمالي للتوزيعات الممكنة. كل ما في الأمر أنه لا نمط محدد يسترعي انتباهنا في السواد الأعظم من تلك التوزيعات. لذا لا يدهشنا أي منها كشيء خارج عن المألوف. فقط نلاحظ التوزيعات التي تتميز بشكلٍ ما.

يمكنك تحويل أمير الى بلايين الأشياء, فقط لو امتلكت القدرة على اعادة ترتيب جزيئاته في بلايين التراكيب المختلفة. لكن معظم هذه التراكيب ستبدو فوضوية – مثل ما بدت بلايين التوزيعات الشوائية لبطاقات اللعب غير ذات معنى -. فقط أقلية لا تكاد تُذكر من تلك التراكيب الناشئة عن اعادة ترتيب "جزيئات الأمير" ستبدو مميزة أو حتى بالكاد صالحة لأي شيء. ناهيك عن ضفدع.
الأمراء لا يتحولون الى ضفادع. و اليقطينات لا تتحول الى عربات. لأن الضفادع و العربات هي أشياء معقدة يمكن تركيب جزيئاتها في عدد شِبه لا نهائي من أكوام الخردوات. لكننا أيضأ نعلم على وجه اليقين أن كل كائن حي – كل انسان, كل تمساح, كل شجرة, كل شحرور و حتى كل قرنبيط – قد تطور عن أشكال أخرى أبسط من الحياة. لذا, ألا يكون ذلك قياسأً ضربة حظ أو شكلاً من السحر؟ لا, بالطبع لا. هذا من الأخطاء الشائعة, لذا أريد أن أبيّن الآن لمَ لم ينشأ ما نراه في الحياة عن الصدفة أو الحظ أو السحر على أي وجهٍ كان ( بالطبع ماعدا الوجه الشِعري البحت الذي يغمُرُنا روعةً و بهجة).

No comments:

Post a Comment